كانت خولة بنت ثعلب الخزرجية قد تزوجت بأوس بن الصامت وهي في مقتبل عمرها وريعان شبابها وكانت صبيحة الوجه حسنة القوام وعاشا معاً عمراً طويلاً نعما فيه بحياة سعيدة وعيشة رافعة ثم تقدمت بهما السنون ولكن خولة ما زالت تحتفظ بشئ من فتنتها وجمالها ..
وفي يوم ما قامت تصلي ورآها زوجها تقف في إعتدال و تركع في خشوع وتسجد في أناة ورفق فتاقت نفسه إليها فلما سلمت داعبها في خفة وطيش فنفرت فاستحوذت عليه الدهشة وتملكه الغضب وثارت ثائرته وحرمها على نفسه كما حرمت عليه امه فقال لها : انت علي كظهر أمي .
ولما سألت زوجها عما يعنيه بقولته , قال لها : ما أظنك إلا حرمت علي ! وكان الظهار من اشد طلاق الجاهلية لأنه في التحريم أوكد , وفي قطع الصلة أيين ...
فسقط في يدها , وحارت في أمرها , وشق عليها أن تبين منه وهو ابو ولدها , وحبيب نفسها ومؤنس وحشتها وزوجها الذي سكن إليها , وسكنت إليه أعواماً طوالاً ...
فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تبثه شجوها و تفضي إليه بما اهمها علها تجد عنده مخرجاً من مأزقها , وتقدمت إليه تشكو حالها قائلة : إن أوساً قد تزوجني و أنا شابة مرغوب فيّ .. فبعد أن كبرت سني وكثر أولادي جعلني كأمه , وإن لي منه صبية صغاراً , إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا , ثم توسلت إليه أن يصلح ما فسد من امرها , ويقوم ما تأوّد (اعوج) من حالها.
وما كان للنبي أن يقضي بأمره , أو ينطق عن الهوى فهو رسول الله موئله الوحي ومرجعه السماء وهو لم يتلق في الأمر وحياً , ولم يعرف لهذا السؤال جواباً , لذلك قال لها : فما عندي في امرك شئ ...
فازدادت حسرتها , واشتد حزنها , وقالت : يا رسول الله ما ذكر طلاقاً وإنما هو أبو ولدي , وأحب الناس الي , ترجوا بذلك أن تلين قناته لتضرعاتها , وتأخذه الرحمة بأولادها .
إن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم حقيقة حالها و وقف على دخيلة امرها ولكن ما يفعل وهو لم يتلق وحياً في مثل شأنها ؟ وهو الفيصل إذا أختلط الأمر و أدلهم الخطب , وأظلم الطريق ! لذلك أعاد عليها جوابه قائلاً لها : ما عندي في امرك شئ ..
فالتجأت إلى من تسع رحمته كل شئ , واتجهت نحو مرسل الوحي , ومبدع السماء و الأرض , ترجوه أن يزيل غمتها , ويفرج كربتها وقالت : اشكوا الله فاقتي و وجدي (حزني) .
طال بها الوقوف , وأكثرت من التضرع وكلما قال لها النبي : ما عندي في امرك شئ .. جأرت (تضرعت) إلى الله بالدعاء , وهتفت شاكية إليه حالها ... فبينما هي في حيرتها وإضطرابها ترفع وجهها إلى السماء مرة وتخفض طرفها نحو الرسول أخرى غشي النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يغشاه حين نزول الوحي , ثم نطق لسانه بالذكر الحكيم وهناك أخبرها بأن الله قد سمع محاورتها , واستجاب لدعائها وأنه ليس على المظاهر بعد الآن إذا أراد التحلة من أيمانه إلا ان يعتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً .
قرّت عينها وعاودها سكونها وإنفرجت اسارير وجهها فقد حقق الله رجاءها وأجاب سؤلها فصلح امرها ورئب (لأم) صدعها وها هي سترجع إلى عشها فتطعم فراخها , وتدبر شؤون بيتها وتسكن إلى زوجها وتتصل سعادتها وتعود سيرتها الأولى.
أرسل النبي إلى اوس فلما حضر إليه قال له : ما حملك على ما صنعت ؟ ..قال إن الشيطان لعب بعقلي , وأضاع صوابي فركبت متن الشطط , وابعدت في الغي فهل من وسيلة استرجع بها شريطة حياتي ومنية نفسي ؟ .
قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم وقرأ عليه قوله تعالى :
قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير [1] الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور [2] والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير [3] فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم [4]
سورة المجادلة
ثم قال له النبي : هل تستطيع عتق رقبة ؟ فقال لا والله ... فقال : هل تستطيع الصوم ؟ فقال : لا والله ... لولا اني آكل في اليوم مرة أو مرتين لكل (ضعف) بصري ولظننت أني اموت , فقال له : هل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً ؟ فقال : لا , إلا أن تعينني منك بصدقة .
فمد النبي إليه يد المساعدة حتى إستطاع ان يطعم ستين مسكيناً وبذلك صارت زوجه حلالاً له وجعل الله للمسلمين وسيلة للتحلل من هذه العادة الجاهلية , وهكذا سار ضوء الإسلام في تلك الأرجاء المظلمة ينير جوانبها , ويبدد سحب الضلال في انحائها ويحسن ما استهجن من اخلاق اهلها فطهرت مبادئه ارجاسها , وقامت على اسسه المتينة صروح حياتهم وضرب مثلاً واضحاً في يسر الأسلام و سماحته , ورفع الحرج والمشقة وتيسير الأحكام فجعلهم بذلك مثلاً علياً واسوة تحتذى إن الله بالناس لرؤوف رحيم .